السبت، 22 أغسطس 2015

ميكانيكا الكم‫ ‫، العلم الغامض

من أغرب وأعجب النظريات الفيزيائية النظرية المعروفة بإسم ‫"‫ميكانيكا الكم‫"‫ ‫(‫‫quantum mechanics)‫ ‫أو ‫"‫الفيزياء الكمومية‫"‫ ‫(‫‫quantum physics)‫ ، وهي العلم الفيزيائي الذي يُعَلِمنا ماذا يحدث علي مستوي الذرة والمستويات الأصغر من الذرة ‫، هو علم لا ينطبق إلا علي هذه الأحجام الصغيرة ولا نكاد نري له أي تأثير في الأحجام الكبيرة التي نعيش أنا وأنت فيها‫.‫
دارس هذا العلم قد يشعر أنه ‫علم ‫ يجافي ‫"‫المنطق‫"‫ أو ‫"البداهة"‫ أوما يمكن تسميته ب‫"‫الإدراك الجمعي‫"‫ ال‫"‫كومون سنس‫"‫ ‫(‫‫common sense)‫‫. وفي بدايات دراسة الفيزياء الكمية أو ميكانيكا الكم يمر العديد من الطلبة في مرحلة إستنكارية ‫(‫‫denial)‫ رافضين أن يصدقوا أن نتائج الكمومية موجودة في الواقع‫.‫ وقد يستمر الموضوع ويتفاقم ويصل بالطالب إلي رفض الكمومية بالكامل في داخله‫.‫ أذكر مثلاً حين دراستي للفيزياء في كلية العلوم أن أحد الطلبة الزملاء قال لي أن ميكانيكا الكم علم صعب وغير مفهوم والأساتذة نفسهم مش فاهمينه ‫(مش صح طبعاً الأخيرة دي)‫ ولذلك مابيشرحهوش صح وإحنا بالتالي مش حنفهمه بس حنكتب الكلمتين إلي حافظينهم في الإمتحان وننجح وخلاص وعمرنا ما نرجع للكم ده تاني وكان الله بالسر عليم!‏
كل ده علشان شعورنا إنه علم يتناقض مع ما نُعَرِفُهُ نحن كبشر علي أنه المنطق‫.‫ بس‫ الحقيقة مش كدة‫.‫ الحقيقة إن ما نسميه نحن بالكومون سنس ونظنه قانوناً مطلقاً هو في الواقع محصلة تجربتنا الحياتية اليومية التي نفترض ‫(‫خطأً‫)‫ أنها تعبر عن الكون من حولنا بالكامل بكل ما فيه من تفاصيل‫.‫ هي مش كدة‫.‫ الصحيح هو أن تجربتنا اليومية ليست إلا تجربة تقريبية جداً لطبيعة الكون‫.‫ يعني مثلاً إذا ذكرنا نظرية النسبية ‫‫(‫‫أنظر هنا وهنا)‫ ، فنحن نعلم أن‫ هناك ظواهر معينة تظهر للرائي إذا تحرك بسرعة عالية جداً مثلاً ربع أو نصف سرعة الضوء ‫، مثلاً سيري الرائي الأطوال تتقلص ‫، وسيري الساعات تبطيء في دورانها وهكذا ‫، ويظن هذا المسافر إنها ظواهر عجيبة تخالف المنطق ‫، ولكن هذا ليس صحيحاً ‫، الصحيح أن هذا هو الطبيعي ‫، الكون شغال كدة ‫، هو بس ماشافهاش قبل كدة لأن حياته كلها قضاها في سرعات بطيئة جداً‫.‫
إذاً القضية ليست في ‫"‫المنطق‫"‫ ‫، القضية أننا نقضي حياتنا كلها في نطاق ضيق جداً جداً من الظواهر الكونية‫.‫ سرعاتنا بطيئة فلا نري مؤثرات النسبية الخاصة ‫، نعيش علي كوكب صغير يدور حول نجم صغير فلا نري مؤثرات الجاذبية القوية التي تظهر في النسبية العامة ‫، و أحجامنا أكبر بكتير جداً من حجم الذرات والجسيمات المكونة لها فلا نري تأثيرات ميكانيكا الكم‫.‫

طيب إيه بقي حكاية ميكانيكا الكم‫؟
الحكاية بإختصار شديد هي إننا إتعودنا في الميكانيكا العادية بتاعة عمنا نيوتن ‫، وهي نفس الميكانيكا القائمة علي حياتنا اليومية ‫ومرتبطة إرتباط وثيق بالكومون سنس ، إن هناك مفاهيم أساسية تشكل البنود الأولي لفهمنا للكون‫.‫ يعني مثلاً طبيعي جداً أن نسأل عن موقع شيء ما‫.‫ أجي أقولك إنت ساكن فين وتديني العنوان ‫، يعني تديني موقعك‫.‫ ولا يخالجني شك إنني إذا ذهبت إلي هذا العنوان سأجدك ‫(‫‫إلا إذا كنت كداب بس دي قصة تانية)‫‫.‫ وطبيعي جداً أن نسأل عن سرعة شيء ما ‫، يعني ممكن أكلمك في المحمول وإنت سايق وأسألك سرعتك كام وتقولي ‫، ولا يخالجني شك أيضاً أن سرعتك صحيحة ولو الرادار قفشك علي الطريق الصحراوي حيسجل عليك نفس السرعة إلي إنت قلتهالي في التليفون‫.‫
المكان ‫، الزمان ‫، السرعة ‫، الطاقة و و و و ‫.‫‫.‫‫.‫ كلها مفاهيم متعودين عليها ‫، ولما ندرس فيزياء عادية بيزداد عندنا اليقين إن هذه المفاهيم مطلقة ودقيقة ولا جدال فيها‫.‫

إلي أن نصطدم بميكانيكا الكم‫.‫

نكتشف فجأة إننا لا نقدر نعرف مكان ولا زمان ولا سرعة ولا أي حاجة خالص بدقة مطلقة لا يختلف عليها إثنان‫.‫ السؤال نفسه غلط!‏ يعني لا معني إطلاقاً أن نسأل هو الإلكترون فين وسرعته كام ‫، مع إن هذه أسئلة طبيعية جداً في حياتنا اليومية‫.‫ لكن تحت مستوي الذرة هذه الأسئلة لا إجابة مطلقة لها‫.‫‫ حتلاقي الرد حاجة زي كدة
‫"‫الإلكترون في الغالب بنسبة تلاتين في المية موجود هنا ‫، وبنسبة أربعين في المية يمكن يبقي هنا ‫، وسرعته مش أكيد يعني بس إحتمال تكون كذا‫"‫
طيب يا عم إيه الإحتمالات دي ‫، مانتاش متأكد ليه‫؟ ماتزود دقة التجربة شوية وتشتري أجهزة أنضف من إلي بتستعملها علشان نعرف بالظبط فين الإلكترون‫.‫
أهي دي المفاجأة بقي‫.‫ المسألة مش مسألة دقة ومش مسألة أجهزة ، المسألة مسألة أن هذه الأسئلة نفسها ‫"‫أين الإلكترون‫"‫ ‫، ‫"‫ ماهي سرعة الإلكترون‫"‫ وخلافه أصلاً أسئلة لا معني لها تحت مستوي الذرة!‏!‏!‏

طان طان طاااااااان ‫(‫‫موسيقي درامية)‫

يعني إيه يا عم أسئلة لا معني لها‫؟ ماحنا عارفينها وبنسألها كل يوم‫.‫
أه في حياتك العادية بتسألها كل يوم وبتلاقي إجابات دقيقة ‫، لكن في الواقع بقي إنها برضه تظل إحتمالات في الحياة العادية ‫، لكن الإحتمالات تزداد دقة كلما زاد حجم الشيء إلي بتسأل عنه‫.‫
يعني إيه‫؟
يعني الإلكترون علشان صغنن قوي أقصي ما يمكن أعمله إنني أقولك إنه موجود هنا بنسبة تلاتين أو أربعين في المية‫‫‫.‫
لكن الأشياء إلي إحنا متعودين عليها ‫، زي بيتكوا مثلاً ‫، أقدر أقولك إنه موجود في المكان الفلاني بنسبة
99.999999999999999999999999999%
لاحظ إنها مش مية في المية ‫، لكن قريبة‫.‫ كل ما يزيد حجم الشيء كل ما إحتمالات الدقة في الأسئلة تزيد‫.‫ علشان كدة لا أنا ولا إنت متعودين علي ميكانيكا الكم وإحتمالاتها ‫، ماشفناهاش قبل كدة ‫، مانعرفهاش ‫، مالناش تجربة بيها‫.‫ وعلشان كدة ممكن نرفضها وممكن تضايقنا جداً لأنها جايالنا علي الجرح زي مابيقولوا ‫، بتبينلنا إن الأسئلة العادية بتاعة كل يوم زي ‫"‫إنت فين‫"‫ ‫، ‫"‫الساعة كام‫"‫ ‫"‫جاي إمتي‫"‫ إجاباتها ليست مطلقة ولا محددة تحديداً لامتناهي ‫(‫‫إلا إذا كنت مصري ‫، في الحالة دي سؤال "‫جاي إمتي‫"‫ ده لا يعني أي دقة بالنسبالك عادي)‫‫.‫ وبيتضح لنا إننا بنينا حياتنا كلها علي إحتمالات ولو حتي إحتمالات كبيرة!‏!‏
طيب هي ميكانيكا الكم دي مافيهاش حاجة مطلقة‫؟ كله إحتمالات كدة‫؟
لأ فيها ‫، بس المطلق إلي فيها حاجات تانية جديدة إنت عمرك ما سمعت عنها‫.‫ يعني مثلاً فيه حاجة مهمة جداً في ميكانيكا الكم بتصف حالة الأشياء إسمها ‫"‫دالة الموجة‫"‫ أو
Wave function
دالة الموجة دي بتصف الإلكترونات والپروتونات وخلافه ‫، وممكن برضه تشتغل معاك لو إنت عايز تصف حاجات أكبر من كدة زي الذرات والجزيئات وحتي أنا وإنت‫.‫ ودالة الموجة دي مالهاش إحتمالات‫.‫ يعني لو سألتك ماهي دالة الموجة بتاعة كذا الإجابة ستكون إجابة دقيقة مش بإحتمالات‫.‫ طيب ما بنستعملهاش في حياتنا اليومية ليه‫؟ لأن مالهاش لازمة في حياتنا اليومية ‫، الحاجات التانية أسهل ‫، لكن علي مستوي الذرة هي دالة الموجة دي كل حاجة ‫، الكل في الكل ‫، ولما بنسأل علي الحاجات التانية دي نلاقي إحتمالات‫.‫
هي دي ميكانيكا الكم بمنتهي الإختصار وكل سنة وإنتوا طيبين ‫(‫‫بإحتمال 96.123%)‫ 
 
 
 
 
 

 

الجمعة، 21 أغسطس 2015

نظرية النسبية العامة بإختصار


في مقال سابق تحدثنا عن نظرية النسبية الخاصة وكيف أنه من أهم نتائجها أننا نعيش في عالم رباعي الأبعاد حيث أن البعد الرابع هو الزمن‫ ويسمي هذا الفراغ الرباعي أحياناً ب‫"‫الزمكان‫"‫ أو
Spacetime
‫ حين نتصور شكل هذا ‫الزمكان‫ فنحن نتخيل وجود أربعة خطوط مستقيمة تتقاطع مع بعضها البعض في زوايا قائمة‫.‫ من الصعب طبعاً رسم هذه الخطوط ولكن ممكن رسم ثلاثة فقط‫.‫ أو إذا رسمنا بعداً فراغياً واحداً مع بعد الزمن كان لدينا شكلاً كهذا‫:
 
الشيء الملحوظ هنا هو أن هذه الخطوط مستقيمة وهو المتوقع ‫طبعاً ، هذا الفراغ نسميه فراغاً مستوياً
Flat spacetime
وتعريف ذلك بسيط وقد يعود بنا إلي دراستنا الأولي للهندسة في مستوي الإعدادي ويتلخص في السؤال‫: ماهو أقصر طريق بين نقطتين‫؟ الإجابة طبعاً سهلة للغاية‫: أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم‫.‫ ولكن في الواقع هذا صحيحاً فقط في الفراغات المستوية‫ كسطح المنضدة أو الورقة العادية.‫ لو تخيلنا فراغاً غير مستوياً فأن أقصر طريق بين نقطتين فيه لن يكون بالضرورة خطاً مستقيماً‫.‫ علي سبيل المثال لا الحصر تخيل سطحاً كروياً ‫، مثل الكرة الأرضية ‫، وحاول أن ترسم عليه خطاً يمثل أقصر طريق بين نقطتين ‫، لن يكون هذا الخط مستقيماً بأي حال من الأحوال ‫، بل سيكون جزأً من دائرة عظمي كما نري في الصورة‫.‫



مثال أخر مشهور هو مثال مجموع زوايا المثلث‫.‫ تعلمنا أيضاً في المدارس أن زوايا أي مثلث مجموعها مئة وثمانون درجة بالضبط ‫، ولكن أيضاً هذا صحيح فقط في فراغاً مستوياً كسطح الورقة ‫، أما المثلثات المرسومة علي أسطح كروية مثلاً أو غير ذلك فلن يكون مجموع زواياها مئة وثمانون درجة ‫، قد تكون أقل أو أكثر‫.

من هذا المنطلق فأن نظرية النسبية العامة هي إكتشاف أينشتين أن الفراغ الرباعي الأبعاد الذي نعيش فيه ليس بالضرورة مستوياً ‫، ولكنه قد ينحني ويتقعر ويتغير تماماً كما لو كان مصنوعاً من ‫"‫مادة‫"‫ مطاطة‫.‫ وتحدبه وإنحناءه هذا يكون بسبب وجود المادة فيه‫.‫ فالشمس مثلاً وجودها في حد ذاته يقعر ويحدب الفراغ الرباعي حولها ‫، وكذلك الكواكب والنجوم الأخري ‫، بل كذلك أيضاً أنا وإنت وأي جسم له كتلة ‫، ولو إن حجم هذا الإنحناء لا يكون ملحوظاً إلا في الأجرام السماوية لثقلها‫.‫ أما أنا وأنت فكتلتنا ليست بالدرجة الكافية لتحني الفراغ حولها بصورة ملحوظة‫.‫
 لمزيد من التوضيح تخيل معي سطحاً مستوياً من الكاوتشوك كما بالصورة‫.‫ وتصور أن هذا السطح هو مثال الزمكان الرباعي الأبعاد‫.‫ بدون تواجد أي شيء ‫"‫فوقه‫"‫ يظل مستوياً ‫كسطح المنضدة ، وتظل الخطوط المستقيمة عليه هي أقصر الطرق بين نقتطين ‫، وتظل مجموع زوايا مثلثاته مئة وثمانون درجة‫.‫


طيب ‫، إحضر جسماً ثقيلاً وضعه في منتصف السطح المطاط‫.‫ سيقوم الجسم بتغيير السطح بحيث لا يكون مستوياً ‫، وتفقد الخطوط المستقيمة معناها ‫فلا تكون بالضرورة هي أقصر طريق بين نقطتين ، وتتغير مجموع زوايا المثلثات لتكون أكبر أو أقل من مئة وثمانون درجة‫.‫

هذا هو بالضبط ما يحدث في الزمكان‫: وجود المادة ‫(‫‫بل والطاقة أيضاً)‫ يقعر ويحدب الزمكان حوله كما أسلفنا‫.‫ تخيل معي الأن أنك أحضرت جسماً أقل كتلة من الجسم الذي تسبب في تحدب الزمكان ‫، وأطلقته في أي إتجاه‫.‫ إذا كان الزمكان مستوياً فسينطلق الجسم في خط مستقيم ‫، ولكن إذا كان الزمكان منحنياً فأن الجسم لن يسير في خط مستقيم ولكنه سيتحرك علي المنحني الذي يمثل أقل طريق بين نقتطين في هذا الفراغ تحديداً‫.‫ ومن الممكن أن ينتج عن هذا مدارات حول الجسم الأكبر ‫، مدارات دائرية أو مدارات إهليجية‫!‏!‏ هذا هو سبب دوران الكواكب حول الشمس في مدارات إهليجية‫.‫ تعلمنا أن السبب هو قوة الجاذبية ‫وهي قوة غامضة لا تري ‫، تمسك بالأجسام وتوجهها كما تريد ، ولكن إكتشاف أينشتين لمفهوم الزمكان المنحني إستعاض عن هذا المفهوم بمفهوم ‫"‫أقرب طريق بين نقتطتين‫‫."‫ فنحن اليوم حين نتحدث عن الجاذبية نعلم أنها ليست في الواقع قوة لا تري كما تعلمنا في ثانوي ‫، ولكنها ليست إلا تمثيلاً لحركة أي جسم في الفراغ الزمكاني المنحني‫!‏!‏



هذا هو ملخص نظرية النسبية العامة ‫، وهو كما تري بسيطاً ليس معقداً‫.‫ ولكن التعقيدات قد تنشأ حين نحاول أن نقوم بالحسابات المطلوبة لتحديد كل هذا ‫، لأن الرياضيات المطلوبة نكتشف أنها معقدة بعض الشيء ‫، أو علي الأصح مختلفة عن الرياضيات التي تعلمناها حتي في مستوي البكالوريوس‫.‫

ينشأ عن كل ذلك ظواهر أخري‫.‫ مثلاً فأن إنحناء الزمكان لا يؤثر فقط علي إتجاهات حركة الأجسام ‫، ولكنه أيضاً يؤثر علي قياس مرور الزمن بالنسبة لهذه الأجسام‫.‫ لأن الإنحناء زمكانياً أي أنه ليس مكانياً فقط ولكن زمنياً أيضاً ‫، ينتج عن ذلك أن قياس الزمن بالنسبة لجسم يتحرك في زمكان منحني يكون بالضرورة مختلفاً عن قياسه بالنسبة لجسم يتحرك في زمكان مستوي أو في زمكان أقل إنحناء وهكذا‫.‫ ولكن لهذا أيضاً حديثٌ أخر‫.‫

الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

نظرية النسبية الخاصة بإختصار

سأبدأ بإذن الله سلسلة من المقالات القصيرة ‫(‫جداً‫)‫ للتعريف المبسط ‫(‫جداً جداً‫)‫ ببعض أهم نظريات الفيزياء الحديثة‫.‫ نتحدث اليوم عن نظرية النسبية ‫ الخاصة‫.‫ الموضوع في الواقع بسيط وسهل ‫، ولكنه محتاج شوية تركيز ‫، نظرية النسبية ممكن وصفها بجزئيتين‫:
الجزئية الأولي‫: الزمن هو البعد الرابع‫.‫
الجزئية الثانية‫: سرعة الضوء ثابت كوني لكل الناس مهما كانت سرعتهم‫.‫

نوضح هاتان الجزئيتان كالتالي.‫

الجزئية الأولي‫: الزمن هو البعد الرابع‫
نحن نعيش في ثلاثة أبعاد مكانية‫.‫ يعني إيه‫؟ أنظر أمامك وتخيل أنك ترسم في الفراغ خطاً مستقيماً يمتد إلي مالانهاية‫‫.‫ ثم تخيل إنك ترسم خطاً ثانياً يتقاطع مع الخط الأول في زاوية قائمة ‫، ثم تخيل خطاً ثالثاً يتقاطع مع كل من الخطين الأولانيين بزاوية قائمة‫.‫ الأن حاول أن ترسم خطاً رابعاً يتقاطع مع الخطوط الثلاثة الأولي بزاوية قائمة مع كل منها‫.‫ ستجد إنك لا تستطيع‫ ‫تخيل ذلك ، مستحيل أن ترسم مثل هذا الخط ‫، لأن أي خط رابع إذا تقاطع مع أحد الثلاثة فلن يتقاطع مع الأخرين ‫، وإذا تقاطع مع إثنين فلن يتقاطع مع الثالث. ‫إذاً هناك بالضبط ثلاثة خطوط فقط لا غير تتقاطع مع بعضها عمودياً‫.‫ نقول أن كل خط من هؤلاء يُعَرِف بعداً من الأبعاد الثلاثة الذي نسميهم ‫، مجازاً ‫، ‫"‫الطول‫"‫ و‫"‫العرض‫"‫ و‫"‫الإرتفاع‫"‫‫.‫

كل من درس الرياضيات أو الهندسة أو الفيزياء يعرف جيداً أهمية هذه الخطوط الثلاثة ‫، لأن بإمكاننا أن نرسم علي كل خط منهم تدريجات زي المسطرة يسميها بتوع الرياضيات ب‫"‫الإحداثيات‫"‫‫ ‫"‫س‫"‫ و‫"‫ص‫"‫ و‫"‫ع‫"‫‫ أو ‫"‫‫x"‫ و‫"‫‫y"‫ و‫"‫‫z"‫ كما في الصورة‫ ‫، وكل نقطة في الفراغ اللانهائي لها بالظبط ثلاثة إحداثيات تحدد موقعها كما نري هنا‫:




هذه الثلاثة خطوط ‫، أو ‫"‫محاور‫"‫ كما نسميها ‫، بالإحداثيات المكتوبة عليها ‫، تُعَرِف الفراغ الذي نعيش فيه‫.‫ وهي مهمة جداً في العلوم والهندسة‫.‫ لأنك إذا أردت مثلاً أن تصف لي مكان واقعة ما فإنك تحتاج إلي الثلاثة لتحديدها‫.‫ لنفترض مثلاً أن عجلة سيارتك نامت‫.‫ أين حدثت هذه الواقعة‫؟ إذا أعطيتني ثلاثة أرقام تعبر عن إحداثيات المكان أستطيع أن أحدد موقعك وأصل إليك بمنتهي السهولة‫.‫

النظرية النسبية الخاصة بقي هي إنك فوق الثلاثة أبعاد إلي إتكلمنا عنهم نقدر نعتبر أن الزمن هو البعد الرابع‫.‫ بمعني إيه‫؟ بمعني أن أي واقعة تحدث في الفراغ لها أربعة إحداثيات وليس ثلاثة ‫، الإحداثيات الثلاثة الأولي هم الإحداثيات الفراغية كما في السابق ‫، والإحداثي الرابع هو التوقيت التي حدثت فيه الواقعة‫.‫ يعني إذا رجعنا إلي مثال السيارة ، فأنه بالإضافة إلي معرفة موقع السيارة بدقة فأننا نعرف الأن الساعة الي عجلة السيارة نامت ‫فيها ، كأن تقول لي ‫"‫عجلة سيارتي نامت في الموقع الفلاني الساعة كذا‫"‫ وتعطيني أربعة أرقام‫.‫

طيب إذا كان الزمن هو البعد الرابع ‫، والتوقيت هو أحد الإحداثيات الأربعة ‫، فكيف نتخيل هذه الأبعاد‫؟ هنا بقي فيه مشكلة‫.‫ مستحيل تخيلها طبعاً ‫، لأننا كما أوضحنا لا نستطيع أن نتخيل أربعة خطوط متقاطعة عمودياً علي بعضها البعض‫.‫ ولكن ذلك لا يمنع أن هذا الخط الرابع موجود وهو ما نسميه أنا وإنت بالزمن‫.‫ وعلي الرغم من فقداننا المقدرة علي التخيل فأننا نستطيع أن نكتب المعادلات الرياضية التي تعبر عن ذلك‫.‫ ونستطيع أيضاً إذا أردنا أن نرسم جزءاً من الفراغ الرباعي ‫(‫‫يسمونه ‫"‫‫الزمكان"‫)‫ بإسقاط واحد أو إثنان من الإتجاهات الفراغية ‫وذلك للتبسيط كما في الصورة‫.‫‫


الجزئية الثانية‫: سرعة الضوء ثابت كوني
بناء علي معطيات فيزيائية سابقة إفترض أينشتين أن أي حدث يحدث في الفراغ الرباعي هذا لا يمكن أن تتعدي سرعته سرعة الضوء ‫، بالإضافة إلي ذلك فأن سرعة الضوء ثابتاً كونياً تظهر لكل الناس بنفس القيمة‫.‫ بمعني إيه‫؟ تخيل شعاع من الضوء قادم من الشمس مثلاً ‫، وإفترض إننا قسنا سرعته ونحن واقفين علي الأرض فوجدنا أنه يتحرك بسرعة ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية‫.‫ الأن فلنفترض أننا ركبنا مركبة فضائية تسير بسرعة مئة ألف كيلومتر في الثانية وإنطلقنا بمحازاة شعاع الضوء‫ في نفس طريقه ثم قسنا سرعته مرة ثانية‫.‫ المتوقع أننا سنجد سرعته مائتي ألف لأننا ماشيين معاه كما في الصورة.‫ ولكن هذا مخالف لفرضية ثبات سرعة الضوء‫.‫ الواقع أننا سنجد شعاع الضوء منطلقاً بسرعة ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية ‫، تماماً مثلما كان ونحن متوقفين‫.‫

غريبة ‫، مش كدة‫؟ هذه هي فرضية ثبات سرعة الضوء وهي فرضية أثبتتها كل التجارب منذا عام 1905 إلي يومنا هذا‫.‫ هي كدة‫.‫ هذه هي طبيعة الكون الذي نعيش فيه‫.

هاتان الجزئيتان هن أساس نظرية النسبية الخاصة وهن المصدر الرئيسي لكل الظواهر الشهيرة للنظرية‫‫. ‫يعني إنطلاقاً من الجزئيتين دول نقدر نستنتج الظواهر إلي يمكن تكون سمعت عنها زي ‫"‫تقلص الأطوال‫"‫ و‫"‫إنكماش الزمن‫"‫ وما إلي ذلك‫.‫ وده مش مستغرب ‫، لأننا إذا فرضنا أن سرعة الضوء ثابت كوني كما هو الحال هنا ‫، ونحن نعلم إن تعريف السرعة هو ‫"‫المسافة المقطوعة مقسومة علي الزمن‫"‫ ‫، فحتي تظل سرعة الضوء ثابتة نجد أننا مضطرين إلي إعادة تعريف ماهي ‫"‫المسافة المقطوعة‫"‫ وما هو ‫"‫الزمن‫"‫ ووضع معادلات رياضية جديدة لقياسهما ‫غير المعادلات العادية بتاعة سنة أولي ثانوي ‫، ومن هنا تبدو لنا الظواهر المذكورة‫.‫
ولكن لهذا حوار أخر‫.‫

السبت، 15 أغسطس 2015

خواطر حول المنهجية العلمية

إستكمالاً لكلامنا عن الفرق بين العلم الحقيقي والعلم الزائف ‫(‫‫المقال الأول والثاني و الثالث‫)‫‫ نسأل هنا‫:
ما هو العلم‫ الحقيقي؟ وما هي منهجيته‫؟ وكيف نعرف أننا وصلنا إلى الحقيقة أو إلى أحد درجاتها؟
إتفق العلماء علي مر القرون علي منظومة محددة للعلم. العلوم الأساسية كلها علوم تجريبية ، فلا يكفي أن يكون لدينا فكرة منطقية أو نظرية رياضية حتي نقول بكل ثقة أننا قد وصلنا إلي الحقيقة. فالعلم يدرس الطبيعة حولنا ، ولذلك وجب علينا أن نستشهد بالطبيعة أولاً قبل أن نقول أننا فهمنا كذا أو إكتشفنا كذا. أي أن التجربة المعملية أو الرصدية هي دائماً المحك والفيصل. وإتفق العلماء أيضاً أن تجربة واحدة لا تكفي. يجب أن يمر كل إكتشاف جديد في مراحل كثيرة جداً ، منها إعادة التجربة نفسها أكثر من مرة علي يد علماء مختلفين ، بل تعاد التجربة مئات المرات بإستخدام أجهزة مختلفة أو تقنيات أعلي في دقتها. فإذا كانت النتيجة ذاتها تظهر في كل تجربة من هؤلاء يبدأ العلماء في تقبل هذه النتيجة. هذه المراحل هي التي يتم فيها قبول الواقع كما نراه. فلا يكفي مثلاً أن يخبرنا يوهان كپلر أنه إكتشف أن الكواكب تدور حول الشمس في مدارات إهليجية ، ولكن يتبع ذلك رصد الكواكب علي يد عشرات العلماء الأخرين قبل أن يتقبل الجميع هذا الواقع ، وهو أن الكواكب بالفعل تدور حول الشمس في مدارات ذات خواص محددة
(أنظر ما يعرف بقوانين كپلر).
يلي ذلك تكوين نظرية تشرح الأليات المنطقية والرياضية للواقع الذي تم رصده ، فنجد إسحق نيوتن بعد كپلر يصيغ نظرية الجاذبية رياضياً ويفسر بها حركة الكواكب. ويلي ذلك أيضاً عشرات الأبحاث التي إما تؤكد أو تنفي أفكار نيوتن. وبالإضافة إلي قدرة النظريات علي تفسير الرصد السابق لها إتفق العلماء أيضاً علي أن النظريات الصحيحة يجب أن يكون لها قدرة تنبؤية ، بأن تقول النظرية "لو عملنا التجربة الفلانية فأنا أتوقع أن تكن النتيجة كذا" ، أي أن تتنبأ النظرية بالناتج. ثم يلي ذلك عشرات التجارب التي تختبر هذه المقدرة التنبؤية للنظريات. بل أن العلماء يذهبون إلي ما هو أبعد من ذلك ، فيقومون بتجارب الهدف منها هو نفي النظرية والعثور علي درجات قصورها ، فوجب علي كل نظرية أن تحتوي بداخلها علي القدرة علي نفي نفسها ، كأن تقول نظرية الجاذبية مثلاً: "إذا عثرتم علي كوكب يدور في مدار ذا خواص غير التي أتنبأ بها فهذا دليل علي عدم صحتي ويجب عليكم البحث عن نظرية أخري." هذه الخاصية الهامة هي ما تسمي بال
Falsifiability
أو مقدرة النظرية علي نفي نفسها (أنظر كتابات فيلسوف العلوم كارل پوپر حول هذا الموضوع).
وبمرور الوقت ، وزيادة التجارب والأبحاث التي تؤكد النظرية وتبني عليها ، ومع عدم وجود أي نتيجة معملية أو رصدية تنفيها ، يزداد يقين العلماء بصحة النظرية ، فمن هو هذا المجنون في يومنا هذا الذي يخرج علينا قائلاً أن نيوتن كان مخطئاً خطأ كاملاً في أفكاره المعروفة؟ وقد يشير البعض إلي أن نيوتن قد أخطأ بالفعل في نظريته للجاذبية والدليل علي هذا أن أينشتين خرج علينا بنظرية جديدة للجاذبية بعد نيوتن بأربعمائة عام ، وهذه النظرية أيضاً لها أدلة صحتها. ولكن هذا القول تنقصه الدقة ، فأينشتين لم يُثْبِت خطأ نيوتن ولكنه وضع نظرية أوسع تطبيقاً من نظريات نيوتن ، فتكون هنا نظرية نيوتن هي حالة خاصة لنظرية أينشتين. وهذا كله طبيعي ، ففهمنا للطبيعة يتسع ويزداد فنكتشف ما هو أعم وأشمل ممَ كنا نعرفه سابقاً ، ولذلك فأن أي عالم حقيقي يعلم جيداً أنه لا وجود لأي حقيقة مطلقة في العلوم ، فالعلم ليس إلا سلماً متصاعداً من الفهم والتوسع في الفهم.
ويتخلل كل هذه المراحل أساليب نشر كل درجة من درجات هذا الفهم. وهو اليوم ما يسمي بالنشر تحت التحكيم العلمي (
Peer review publishing
). فأتُفِقَ أن علي كل عالم قام بتجربة صَغُرَت أو كبُرَت عليه أن يكتب ورقة بحثية بأسلوب متفق عليه يشرح تفصيلاً أهدافه وأساليبه والأجهزة التي إستخدمها والنتائج التي وصل إليها بطريقة تسمح للقارئ أن يعيد تركيب البحث ويقوم بالتجربة بنفسه إن أراد. ويرسل العلماء هذه الأوراق البحثية إلي المجلات العلمية كل في تخصصه. يتسلم المحررون هذه الأبحاث ويقررون تقريراً مبدأياً إذا كانت هذه الأبحاث ملائمة للنشر أم لا ، لأن هؤلاء المحررون علماء أيضاً ولديهم المقدرة علي تقدير جودة البحث وإن كان الباحث شخص علي دراية بما يفعل. ثم يرسلون الأبحاث إلي ما يسمي بالمحكم العلمي (
Peer reviewer
) وهو عالِم أخر متخصص في نفس تخصص البحث ، يتم إختياره عشوائياً أو بناء علي تجارب مسبقة. فيقرأ هذا العالم البحث ويراجعه ويتأكد من كونه بحثاً مطابقاً لمنهجية العلم وأن الباحث علي دراية بما يفعل ، ويقدر أيضاً أهمية الموضوع ومدي أحقيته للنشر. وأحياناً ما يرسل المحرر البحث لأكثر من محكم علمي. ومن المتعارف عليه أن المحكمين العلميين يكونون مجهولين لصاحب البحث حتي لا يكون هناك أي إحراج أو حزازات في حالة الرفض. وعادة ما يطلب المحكم العلمي شيئاً من المراجعة للبحث أو إضافة مرجع أو إضافة توضيح أو ربما يرفض البحث بأكمله. وأحياناً ما يدور حوار بالمراسلة (في يومنا هذا تكون المراسلات إلكترونية) بين الباحث صاحب الورقة العلمية وبين المحكمين المجهولين لديه ، ويتخللها تعديلات وإضافات للبحث حتي يتم قبوله ونشره.
ولا ينتهي الموضوع هنا ، فقد ينشأ بعد البحث حواراً علمياً بين العلماء حول هذا البحث ، فيقوم بعضهم بإعادة التجربة كما أسلفنا ويقوم البعض بنقدها مثلاً ، وتظهر نتائج كل هذا في ورقات بحثية أخري تمر بنفس المراحل. فيزداد الحوار ويتوسع ويكبُر العلم وتنمو المعرفة.
هذه المراحل الكثيرة المتعددة لا تتوقف ولا نهاية لها ، وكلها جزء من المنهجية المتفق عليها لينمو العلم ويصحح نفسه بمرور الوقت. ولا تنجح كل الأفكار في الإتساع والإستمرار ، فمنها ما يثبت خطئه ومنها ما يُعَدَّل ويعاد تعديله حتي يتقبله الجميع.
كل هذا ممَ لا ندرسه بالمدارس والجامعات ، بل هي مرحلة متقدمة من الفهم لا يبدأ الإنسان في إستيعابها قبل وصوله إلي مستوي الدكتوراه.

******************************
هذا المقال كان في الأصل جزء من مقال أخر لي حول نظرية التطور ‫، ولكن نظراً لأني أعلم أن بعض الناس ما‫"‫بيحبوش‫"‫ سيرة التطور ‫، فنقلت الجزء المهم هنا دون ذكر التطور‫.‫
 
 
 
 
 

 

الأحد، 9 أغسطس 2015

نظرية النسبية إلي عمالين يحطموها دي‫ ‫، هو فيه إيه‫؟

من أمتع النظريات الفيزيائية في دراستها وأكثرها إثارة للخيال هي نظرية النسبية لأينشتين بشقيها الخاص
Special theory of relativity
والعام
General theory of relativity
أنا الحقيقة ما بحبش أسميهم نظريتين ، لأنهم في رأيي نظرية واحدة ، وهي النظرية العامة ، والنظرية الخاصة تعد حالة خاصة لا غير ، ومن هنا تسميتها بهذا الإسم. تاريخياً أكتشفت الخاصة قبل العامة بعشرة سنوات ومن هنا جاء التقسيم ، لكنهم في الواقع جزء من نسيج واحد. ماعلينا ، نبقي نرجع للتفاصيل دي في مقال أخر.
لو إنت مهتم بالعلوم يبقي أكيد بتسمع عن النسبية كتير ، يمكن تكون سمعت عن ظواهر معينة بتنشأ منها زي مثلاً محدودية سرعة الضوء ، زي إن المسافات تتقلص وتتمدد بحسب السرعة ، والزمن يقل أو يزيد ، ربما سمعت عن حاجة إسمها "الزمكان" وإنه ممكن "ينحني" وينبسط. لكن في الغالب ، إن لم تكن متخصصاً ، فهذه الظواهر قد تشكل بالنسبة لك أزمة لأنها تبدو غير منطقية ، أو في أقصي التقديرات ظواهر غامضة تثير الخيال وتتوقف عندها ملكاتنا التصورية. 
ولو غلبك فضولك أكثر فمن الممكن تكون إشتريت كتاب أو إتنين بيشرح النظرية الخاصة وقريتهم. وهنا قد تكون وقعت في إشكال. معظم الكتب إلي بتشرح النظرية الخاصة بالذات بتخش علي طول في الظواهر المذكورة أعلاه من غير ما توضح جت منين وأصلها إيه ، والأكثر إشكالية من ذلك إن الكتب دي غالباً ما تستخدم رياضيات بسيطة جداً تعتمد علي الجبر إلي كلنا درسناه في الثانوية العامة مم يعطي الإيحاء للقاريء بعد الإنتهاء منها إنها كانت حاجة سهلة قوي وواضحة قوي ، وإنه كدة يبقي فهم الحدوتة بالتفصيل الممل ، بل ما يزيد الطين بلة أن بعض هؤلاء القراء ينخدعون إنهم فهموها إلي الدرجة التي تسمح لهم بتطويرها ، ويقعد الواحد منهم يمسك ورقة وقلم يطبق المعادلات البسيطة إلي قراها ويكتب ما يظنه بحثاً في النسبية ، ولو لقي حاجة مش فاهمها يفتكر إنه لقي غلطة في النظرية.

وهوپا يا معلم ، يكلم الجرايد والمجلات ويزعق بأعلي صوته إنه العبقري الذي هزم أينشتين وحطم النسبية (أمثلة مصرية في مقالي هذا وأمثلة أجنبية هنا).

الأخبار من دي كتير قوي ، في الغرب وفي الشرق. النسبية إتحطمت ولا ألف مرة ، وكله طبعاً كلام فارغ وعلم زائف.
طب إشمعني النسبية إلي مركزين عليها وما بيحطموش غيرها؟ الفيزياء مليانة نظريات ، لكن التركيز غالباً علي النسبية.
ما تسمعش أبداً عن حد هزم شرودينجر وحطم ميكانيكا الكم.
ماتسمعش عن حد هزم ماكسويل وحطم النظرية الكهرومغناطيسية.
ولا عمرك حتسمع عن حد هزم فاينمان وحطم النموذج المعياري للفيزياء.
لكن دايماً بتسمع عن من يحطمون النسبية.
إشمعني يعني؟ 
لأكتر من سبب.
أولاً الكتب السالف ذكرها بتشرح النسبية بصورة مبسطة تخدع القاريء وتحسسه إنه فهم. وخياله يتطور إنه مش بس فهم ، لأ ده إكتشف وطور وحطم وكسر. وهو مش واخد باله مطلقاً إن الكتب دي ليست إلا مدخل إلي النسبية ، ولا تقص عليك إلا جزء بسيط من القصة ، وليس القصة كلها. أما باقي العلوم المذكورة فكتبها أكثر تعقيداً من الناحية الرياضية وليس من السهل قراءتها.
أضف علي ذلك شهرة أينشتين مقارنة بالعلماء الأخرين السالف ذكرهم ، وكونه أصبح رمزاً للعبقرية الفذة (وهو يستحق ذلك ولاشك) مم يُطمع الكثيرين أن يتفوقوا عليه ليصبحوا هم أنفسهم ‫"‫أينشتينات‫"‫ جُدُد.
ده غير كمان إن النسبية الخاصة زي ما قلنا قبل كدة ليست إلا حالة خاصة من نظرية أوسع وأشمل وهي النسبية العامة ، وكتير من الأوقات بقرأ خبر عن واحد إكتشف خطأ في النسبية الخاصة ولكنه في الواقع ليس خطأ ، ولو كان كلف نفسه وذاكر شوية زيادة في النسبية العامة كان حيلاقي إجابة لسؤاله إلي هو تصور إنه خطأ أو ضعف في النظرية.

خلينا واضحين:
النظرية النسبية الخاصة نظرية ثابتة ومثبتة في الفيزياء رياضياً ومعملياً ، والتجارب المعملية التي تؤكدها من الكم والكيف بحيث يصبح من الصعب جداً أن يكون فيها أي خطأ من الأخطاء التي يدعونها. بل أضف إلي ذلك أن الفيزيائيين بنوا فوق أعمدة النسبية الخاصة نظريات أخري عديدة ، مثل النموذج المعياري أو القياسي للفيزياء ، التي أثبتت صحتها معملياً ولازالت إلي يومنا هذا. ولو كان في النسبية خطأ واحد من إلي بيكتشفوهم دول لإنهارت الفيزياء الحديثة تماماً.
أما النسبية العامة ، فهناك الكثير من التجارب والأرصدة الفلكية التي تؤكد صحتها ، وكل النظريات عن الكون وحركة الأجرام السماوية التي نستخدمها اليوم قائمة علي النسبية العامة ، ولو كان هناك خطأ أساسي في أصول النظرية لظهر بمنتهي الوضوح في هذه التجارب. بل أني أزيدك من الشعر بيتاً وأشير أن أجهزة التقصي الحديثة المساة بال‫"‫جي پي إس‫"‫
GPS
الموجودة في بعض السيارات وفي بعض التليفونات المحمولة وفي كل الطائرات والبواخر العملاقة وتعتمد عليها حركة المواصلات والتجارة العالمية ، تعمل بإستخدام معادلات النسبية العامة لأينشتين. يعني كل هذه الأجهزة تؤكد صحة النظرية كل يوم.
بإختصار كل هذه الأخبار عن "تحطيم" النسبية تتعارض مع علوم الفيزياء والفلك والكونيات والتكنولوجيا الحديثة تعارضاً مباشراً ، ويزيد من الطين بلة أن بعض الصحفيين يستغلون هذه الأخبار لإحداث فرقعات إعلامية لا أصل لها ولا فصل.

طيب يعني هو مستحيل فعلاً تعديل النظرية؟ يعني إحنا متأكدين منها بقي مية في المية وماحدش يقدر يقرب منها خالص؟
لأ مش للدرجادي ، لازم نبقي فاهمين إن العلم بيتطور وبيكبر ، وممكن في المستقبل حد ييجي مش يكتشف خطأ في النظرية الأصلية ، لأ ، لكن يكتشف حدود تطبيق النظرية الأصلية. كل نظرية في العلوم لها حدود تطبيق. يعني مثلاً ميكانيكا نيوتن (بتاعة الثانوية العامة دي) بتشتغل كويس جداً لما تكون الظواهر تحت الدراسة مش بتتحرك بسرعات عالية ، يعني حدود تطبيق النظرية هي السرعات البطيئة ، لما نزود السرعة ونخش في حاجات ماشية بسرعات عالية جداً زي مثلاً ربع أو نص سرعه الضوء او اكثر نكتشف إن ميكانيكا نيوتن ما بتديناش الإجابة الصحيحة ولازم نخش علي النسبية الخاصة. وكذلك النسبية الخاصة بتشتغل كويس في مجالات الجاذبية الضعيفة ، لكن لو نقلت التجربة مثلاً قريب من الشمس أو قريب من أي جرم سماوي ليه جاذبية قوية حتلاقيها بتديك النتائج الخطأ للتجربة ، ولازم ساعتها تطبق النسبية العامة. وكذلك النسبية العامة لها حدود ، يعني بتشتغل كويس علي الحاجات الكبيرة زي الكواكب والنجوم لكن لو حاولت تطبقها علي مستوي الذرة والإلكترون مثلاً حتديك نتائج خاطئة ولازم نستخدم حاجة إسمها نظرية الجاذبية الكمية إلي لسة مش معروفة لينا وجاري البحث عنها.
وهكذا وهلم جرة.
طب الجماعة إلي بيحطموا النسبية دول مش ممكن يعملوا هذا التطوير؟ مش يمكن حد فيهم عمل كدة فعلاً؟
ماظنش.
لأنك علشان تطور النسبية أو تعدلها لازم تكون أولاً ملم بكل النظريات الأساسية في الفيزياء علي مستويات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه علي الأقل (أيوه علي الأقل) لأنهم كلهم متداخلين مع بعض ، وتكون ملم بكل محاولات التعديل والتطوير إلي تمت قبل منك (المحاولات إلي بجد مش كفتة) إلمام تفصيلي بحثي علمي معملي فذ. وتكون بالإضافة لده كله إشتغلت مع أساتذة علموك كيف تقوم بالبحث العلمي وأصول المنظومة العلمية البحثية. كل ده هو أقل القليل علشان تقدر تبتدي مجرد إنك تفكر تساهم في تطوير أو تعديل أي نظرية اساسية في الفيزياء. فلما تلاقي خبر في الجرايد بيقولك إن طالب عبقري في ثانوي ، أو باحث شاب في الكيمياء ، عدل وطور النسبية إعرف إنه خبر كاذب وعلم زائف ‫، لأنه مهما كان ذكاء هذا الشخص مافيش في عمره أو في دراسته سنوات كافية علشان يكون ألم بكل ما وصفته أعلاه من العلوم والخبرات.

طيب هل هناك أمثلة لمحاولات حقيقية وجادة لتعديل أو تطوير النظرية النسبية بشقيها؟ أه طبعاً فيه كتير جداً جداً جداً وبيزيدوا كل يوم. والمحك الحقيقي لتحديد أي منها صحيح هو التجربة المعملية أو الرصدية. وبيحصل كتير إنه بعد نشر أحد هذه المحاولات يروح عالم من العلماء واخدها ومطبقها في المعمل علشان يشوف إذا كانت بالفعل بتشتغل ولا لأ. وإلي يومنا هذا لا يوجد أي تعديل أساسي في النسبيتان تم قبوله قبولاً نهائياً ، ولازالنا نستخدم أفكار إينشتين الأصلية إلي يومنا هذا بتطويرات صغيرة لا ترقي مطلقاً إلي المستوي إلي بنتكلم عنه.

العلم رحلة ، محطاتها كتير جداً ، أغلبها محطات صغيرة القطار يادوب بيهدي فيها أو يقف لمدة ثانية وعادة ماحدش بينزل ، لكن من وقت للتاني هناك محطة كبيرة بننزل كلنا فيها ونقف شوية ونبص حوالينا ونتأمل وصلنا لفين ، ولازالت محطة أينشتين من مئة عام هي أخر محطة كبيرة وقفنا عندها. عايز تركب القطر وتشارك في الرحلة؟ أدخل الجامعة وإدرس وإتعلم وذاكر وما تستعجلش. السكة طويلة ولا نهاية لها ، لكن المناظر من الشباك أكثر من رائعة.