الجمعة، 10 يوليو 2015

من مذكرات إعتصام يوليو‫: موقعة العباسية ‫، 23 يوليو 2011 ‫‫، شهادة عيان

وصلت ميدان التحرير الساعة الرابعة وأربعون دقيقة تقريباً. ما أن عبرت نقطة تفتيش قصر النيل وحييت شباب النقطة بتحيتي المعتادة "ربنا يقويكوا" حتي سمعت منادياً ينادي:
المسيرة بدأت
المسيرة بدأت
جريت إلي حيث الجموع:  نقطة تفتيش ميدان عبد المنعم رياض بجوار المتحف المصري. قطعت ميدان التحرير كله جرياً خوفاً من أن يرحلوا بدوني. إنضممت إلي المسيرة من أخرها. رفعت رأسي فوق الجموع لأري أنه لا نهاية لها. ألاف الرؤوس وألاف الأيدي ترفع علامات النصر ورايات الوطن.
تحركت المسيرة تجاه شارع رمسيس.



الهتافات تدوي ، وظلت تدوي طوال الوقت:
"عيش ، حرية ، عدالة إجتماعية"
"الشعب يريد محاكمة الطاغية"
"يسقط يسقط حكم العسكر .. إحنا الشعب الخط الأحمر"
" كلمة واحدة وغيرها مفيش .. السياسة مش للجيش"
"حرية ، حرية ، حرية"
وغيرها من المطالب. وعند مرورنا علي جموع المتفرجين من النوافذ والشرفات وكباري المشاه كنا نزأر
"إنزل ، إنزل"
"إيه يا مصري ساكت ليه؟ خدت حقك ولا إيه" ، ونشير لهم بأيدينا لينضموا لنا.
ولاحظت فعلاً إزدياد الجموع تدريجياً. لست أدري كم كان عددنا ، ولكني لم أري نهاية أوبداية للمسيرة. من هم؟ من كانوا؟ شباباً ، رجالاً ، فتيات ، سيدات. إخطلطت فصائل الشعب كله في المسيرة. كنت أري أبناء إمبابة وبولاق كتفاً بكتف مع من يبدو عليهم سمات نادي الجزيرة والمعادي. لم أستطيع أن أفرق بين مسلماً أو مسيحياً أو بهائياً أو ملحداً. وجوه مصرية صميمة نراها كل يوم في كل شارع في مصر ، ورأيناها في صور وتماثيل عمرها ألاف السنين. هؤلاء هم. كانوا ومازالوا وسيكونوا أبدا.



إتصلت بي في الطريق الصديقة "ن" ثم إنضمت لنا عند محطة مترو الإسعاف وظللنا سوياً حتي النهاية. إستمرت المسيرة لا تهدأ ولا تكل ، تتغير الوجوه المحمولة علي الأعناق وتختلف الهتافات ولكن لا تتغير المطالب ولا تقل الحماسة.

نهاية شارع رمسيس ، غمرة ، وأخيراً ... العباسية !‏!‏

دارت المسيرة يميناً أمام  مسجد النور العملاق ، علي يسارنا مستشفي كلية طب عين شمس وعلي يميننا مبان سكنية. الهدف: التظاهر السلمي أمام مبني وزارة الدفاع مقر المجلس الأعلي للقوات المسلحة ، وقيل أيضاً أننا سنمر أمامهم فقط ثم نعود إلي ميدان التحرير. المهم أن الأهداف كانت سلمية واضحة ، تنفيذاً لحقنا في التظاهر السلمي ، هذا الحق الذي أكده المجلس أكثر من مرة.



رأيتهم بعد الدوران. صف عريض من السيارات المدرعة تحمل جنوداً من المشاه ، يحيط بهم الشرطة العسكرية بقبعاتهم الحمراء المميزة ، وبيننا وبينهم سلوكاً شائكة تسد الطريق تماماً وتمنع الإقتراب من الجنود. علي اليسار سور مسجد النور العالي ، وعلي اليمين شارعاً ضيقاً بين بنائين ، أحدهما خلف متاريس الجيش لاحظت وجود بعض الأشخاص علي سطحه. خلفنا بوابة المستشفي المغلقة. المدافع الرشاشة فوق المدرعات موجهة تجاهنا ، يجلس خلفها وجوهاً لا تستطيع أن تفرق بينها وبين الوجوه في المسيرة. شباب مصريين أيضاً ولا فرق بيننا وبينهم إلا ما يرتدونه من زي عسكري. ضباط الجيش والشرطة العسكرية يقفون وسط الجنود ينظرون إلينا في صمت ، وطوال ما تلي ذلك من أحداث لم يتغير مشهد القوات المسلحة. نفس الأوضاع ونفس النظرات. لازلت لاأصدق أنهم لم يتحرك لهم ساكن في ماتلي مما لا يمكن أن يسمي إلا مذبحة أو شروع في مذبحة.
 

Al-Nour Mosque (Cairo) - Wikipedia



توقفنا طبعاً.
تغيرت الهتافات قليلاً
" يا أهالي العباسية.. المسيرة دي سلمية"
" ارجع ارجع على ثكناتك"
"يسقط يسقط حكم العسكر"
"هنفكه هنحله هنشيل المجلس كله"
"يانجيب حقهم ، يا نموت زيهم"
وجلس البعض علي الأرض.
نظرت إلي الشارع الجانبي الضيق. هل تدخل المسيرة فيه؟ هل نتوقف هنا؟ هل يتركوننا نهتف حتي نمل ثم نرحل؟ هل نعود أدراجنا من حيث جئنا؟

مع أذان المغرب بدأ البعض يدخلون إلي مسجد النور للصلاة. دقائق ورأيت بعيني صفاً من جنود الجيش داخل سور المسجد يجرون ليسدوا بأجسادهم السور بكامله. أغلقت بوابة المسجد فلم يعد لمن بالداخل أي طريق للخارج والعكس أيضاً ، وأضطر من تبقي منا لإفتراش الأرض والصلاة جماعة في الشارع أمام المسجد بإمامة شيخاً أزهرياً كان معنا من التحرير ، يحيط بهم دائرة من الثوار تشابكت أيديهم لحمايتهم. تسارعت الأفكار في رأسي متساءلة عن سبب إغلاق المسجد ، ولكن لم تستمر حيرتي طويلاً.



لست أذكر أيهما بدأ أولاً: فرقعات نارية عالية تأتي من الشارع الضيق علي اليمين ، أو وابل من الحجارة ينهال علينا من نفس الشارع ومن أسطح البناء السكني خلف متاريس الجيش. أذكر أن أول ما جاء في ذهني وأنا أري هذا الكم من الحجارة الطائرة هو "مجانيق؟ رأيت هذا في الأفلام". وبدأت الجموع تجري إلي الخلف ، وكان من الواضح أن من لم يجري سوف تدهسه الأقدام ، ولعل هذا أخطر من الحجارة نفسها. أمسكت بيد "ن" وجريت معهم. وصلنا إلي مبني صغير مكون من حجرة واحدة بيننا وبين المستشفي لا أظنه إلا كشك مراجعة تصريحات الدخول. وقفنا خلف المبني والجموع تهرول حولنا ودوي الطلقات أعلي من أصوات إرتطام الحجارة بالناس أو بالأرض.

بعد المفاجأة الأولي بدأنا في التحرك ، أول ما رأيت كان جموعاً مننا ينقضون علي بوابة المستشفي. لست أدري إن كانت هجمتهم هذه سبباً في كسر القفل أم أن شخصاً في الداخل أخذته الرأفة بنا ففتحه. ولكنه في النهاية فُتح. ومن هذه اللحظة أصبح مدخل المستشفي ملاذاً للجرحي وبعض الثوار للراحة القليلة قبل العودة إلي المعركة. وأي معركة كانت.

تركت "ن" داخل سور المستشفي وخرجت لأري ماذا يحدث. نظرت إلي الشارع الجانبي ، لازالت الحجارة تنهال منه ومن أسطح البناء ، فنظرت إلي الطريق الرئيسي من حيث أتينا لأري علي بعد صفوفاً من البشر ، التراب الناتج عن حركتهم كان كثيفاً فلم أدرك في باديء الأمر من هم. إقتربت قليلاً لأري خوذهم ودروعهم تلمع في إضاءة الشارع: قوات أمن مركزي تسد الطريق الذي جئنا منه تماماً. علي يساري شارعاً ضيق أخر بدأت فوراً منه هجمات لم أري مصدرها. حجارة وأصوات طلقات نارية بكثافة عالية. وفوقنا رأيت طائرة هليكوپتر تابعة للجيش تحوم علي إرتفاع منخفض ، وظلت هكذا طوال الوقت.

تحرك الثوار!‏ بدأنا في تحطيم بلاط الأرصفة للرد عليهم والدفاع عن أنفسنا. شيئاً فشيئاً إنتظمت الصفوف. البعض يحطم الأرصفة ويجمع الحجارة في ما تيسر من سلات مهملات بلاستيك. أغلب من كانوا يفعلون هذا كن من النساء ، وشاركهم في هذا رفيقتي "ن". ينقل البعض الأخر هذه السلات إلي الصفوف الأمامية من الشباب. الحجارة تنهال منهم ومننا. من وقت لأخر نفر إلي الوراء تحت وطأة الضرب ، ثم نكر إلي الأمام بصيحات نصر عالية هزت أرجاء العباسية. بعضنا من أشجع من رأيت في حياتي كانوا يقتحمون هذه الشوارع الجانبية ويعودون محمولين علي الأكتاف ، تسيل دمائهم الذكية الغالية.


من وقت لأخر تهدأ الهجمات علينا. وألاحظ بدء تحرك صف كوردون الأمن المركزي تجاهنا ، حثيثاً ، بطيئاً ، مضيقاً الخناق ، مغلقاً الكماشة. ومن الناحية الأخري يستمر مشهد متاريس الجيش كما هو. لا يرمش لهم جفن ولا يتحرك لهم ساكن. أري من خلفهم بعض الناس علي الكوبري العلوي يجرون ويتشاحنون معاً. لست أدري من هم. وفوقنا تدور الهليكوپتر ذاهبة وغادية كمن يرصد موقعة حربية.
في لحظات الهدوء القليلة يستمر الثوار في إعداد سلاح الحجارة ، حتي كادت الأرصفة أن تخلو منها تماماً. سيارتان للإسعاف عبرتا كوردون الأمن وتوقفتا في منتصف الميدان لعلاج الجرحي ، ولكن هيهات ، أعداد المصابين كانت غزيرة. بعضهم نقل إلي داخل المستشفي ذاتها ، والبعض الأخر إلي أماكن أخري لا نعرفها.
إتصل بي أحد الأصدقاء الأعزاء ، أحد أبطال 25 و 28 يناير ، الثائر "ش" ، وأخبرني أنه في الطريق إلينا. بعدها بدقائق وصل "ش" ممسكاً بجنبه. علمت منه أنه أضطر أن يسلك الشوارع الجانبية حتي يصل إلينا وإستطاع أن يعبر جموع البلطجية حيث أخذ ضربة حجر في جنبه. ومن هذه اللحظة لم يتواني "ش" في أن يكون بين الصفوف الأولي ، أراه من وقت لأخر بجرح جديد وإصابة جديدة.
ويبدأ الهجوم ثانية. لفت نظري إمرأة وقفت علي باب المستشفي ومعها طفلاً لا يتعدي عمره الخمس سنوات تصرخ محمسة للجموع:
"الستات والجرحي بس جوة بوابة المستشفي ، يا رجالة إطلعوا حاربوا بلطجية الطواغيت. إيه؟ مافيش رجالة؟ عايزين تستخبوا؟ مصر مابقاش فيها رجالة؟"
كان لهذه المرأة وحماستها أكبر تأثير علي الجموع. وأكاد أجزم أنه لولا صرخاتها المتكررة لكانت النتيجة مختلفة تماماً. رأيت إمرأة أخري تخاطب الطفل قائلة "أمك دي بطلة‏"!
ذهبت إلي الصفوف الأمامية مرة أخري. أعتقد علي ما أذكر أن هذه كانت اللحظة التي إصطدمت بي فيها أحد الحجارة. شعرت بألم كبير في ذراعي الأيسر نتيجته كانت شبه شلل مؤقت لفترة حوالي عشرة دقائق إستندت فيها علي سور علي يميني كنت أظنه سوراً للمستشفي ، ولكن رأيت في ما يلي أنه سور لحديقة عامة. لها بوابة في ناحيتنا ولكنها مغلقة.


بدأت الهجمات في التصعيد ، ولأول مرة في حياتي أري بعيني رأسي نيراناً طائرة من كل حدب وصوب ، علق أحد القريبين مني قائلاً بمنتهي الهدوء ، هدوء المعتاد علي ذلك: "مولوتوف"!‏
كانت مصادر هذه النيران الطائرة في البداية مصدران: الشارعان الجانبيان اللائي أشرت إليهما سابقاً ، وأيضاً من خلف كوردون الأمن المركزي. بل أني رأيت بنفسي أشخاص بثياب مدنية يعبرون الحاجز الأمني ليلقوها علينا ثم يعودون خلف الأمن ، وينفتح لهم الحاجز ويغلق. بعد قليل بدأت النيران الطائرة تلقي علينا بغزارة من وراء سور الحديقة علي يميننا ، فتحرك الثوار فوراً تجاه بوابة الحديقة. في أقل من دقيقة كانت البوابة ملقاة علي الأرض وجموع مننا تنطلق إلي الداخل باحثة عن من يلقي المولوتوف. في ما تلي ذلك علمت أن هذه المنطقة تم تأمينها ولم نري منها نيراناً طائرة بعد هذه اللحظة. ورأيت أيضاً في هذا الوقت تجمعاً من الثوار في وسط الميدان وعلمت أنهم نجحوا في القبض علي أحد البلطجية ، دخلت في وسطهم ورأيته بعيني. حاول البعض ضربه وحامي عنه البعض الأخر. ثم أخذوه إلي الخطوط الخلفية بجوار المسجد ولا أعلم ماذا حدث له بعد ذلك.
إستمرت المعركة ، رأيت البلطجية يخرجون ويدخلون من الشوارع الجانبية ومن خلف الكوردون الأمني ، ورأيت ما يلمع في أيديهم من أسلحة بيضاء ومالا يمكن أن يكون أقل من سيوف و"سنج". وكان بعضهم أيضاً يحمل في يده إطارات سيارات بغرض إشعالها وإلقاءها علينا في ما يبدو. إشتعلت أحد السيارات المتوقفة في الشارع من تأثير قنابل المولوتوف. ويشهد الله أني لم أري أي نيران طائرة تنطلق من الثوار ، فلم يكن لدينا إلا حجارة الأرصفة. ولم تتوقف الطلقات أيضاً ، ولكننا كنا إعتدنا علي صوتها المدوي فلم تعد تقلقنا. من وقت لأخر كانت أصوات إنفجارات عالية مجهولة المصدر تأتي من الشوارع الجانبية. كل هذا والجيش والأمن لا يفعلان شيئاً إلا تأمين المخارج حتي لا نستطيع الهروب. ولكني أجزم أننا لم نكن نريد الهرب ، فقد كان من السهل أن نعبر المستشفي إلي الناحية الأخري أو حتي نحتمي بها. بل ان أبواب المسجد كانت قد فتحت قبل صلاة العشاء وكان من الممكن أيضاً الإحتماء بها. ولكن أغلبنا لم يستعمل المسجد إلا للراحة المؤقتة أو شرب الماء. قبل ذلك ، أثناء إغلاق المسجد ، كان البعض ممن في الداخل يملأون زجاجات الماء ويمررونها عبر السور إلي نساء الثوار اللائي كن يدورون علينا ليشرب الجرحي أولاً ثم يشرب من يريد.

نساء الثورة!‏ لم أر في حياتي أشجع من هؤلاء. القليل منهن من كان في الصفوف الأمامية ولكن بطولات من بقين في الخلف لتوزيع الماء والعناية بالجرحي وشحذ همة الثوار لا توصف!‏ فتيات نادي الجزيرة إختلطن بالمنقبات ونساء المناطق الشعبية البواسل ، كلهن في حركة واحدة دؤوب. وكانت لبعضهن أيضاً أدواراً قيادية مثل السيدة نوارة نجم وفتاة أخري ضئيلة الحجم كان رجال الثورة يطلبون مشورتها بمنتهي الإحترام منادينها بإسم "رشا". ورأيت أيضاً السيدة بثينة كامل ، المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية ، في وسط جموع الثوار.

عدت إلي الصفوف الأمامية ، وإستمرت الأحداث كما هي حتي فوجئت بما لم أكن أتوقعه. دموع تسيل من عيني ونيران تحرق جوفي. دخان كثيف يتوالي علينا من صفوف الأمن المركزي.

الغازات المسيلة للدموع!‏ مشاركة الأمن المركزي "الرسمية" الوحيدة!

تراجعنا تحت وطئة الضرب. إنطلقت مع البعض داخلين الحديقة التي حُطم بابها بحثاً عن بلطجية المولوتوف سابقاً. جريت إلي الداخل بضع خطوات وأنا لا اكاد أري شيئاً. عندما هدأت عيناي وجوفي فكرت في العودة ولكن دخان الغازات منعنا من سلوك طريق البوابة. فجريت مع أخرين إلي نهاية الحديقة التي يفصل بينها وبين المستشفي سوراً معدنياً. البعض إستطاع أن يقفز فوق السور ولكن كان من الواضح أن الأخرين لن يستطيعوا ذلك ، خاصة إمرأة متقدمة في السن كانت معنا. إجتمعنا حول السور وإجتمع بعض الثوار من الناحية الأخري. بعد عدة محاولات إستطعنا لّي جزء من السور إلي ناحية المستشفي ثم عبرنا منه وإنطلقنا عائدين إلي الميدان. ولكن أحدنا أوقفنا قائلاً "يا شباب لازم نصلح السور زي ماكان ، إحنا مش هنا عشان نخرب ، كفاية الرصيف إلي كسرناه". وكانت لحظة من أعجب وأروع ما رأيت في حياتي!‏ تحت وطئة الضرب ونحن لا نعلم ماذا ينتظرنا عدنا لنصلح السور وأخذنا به حتي أرجعناه كما كان!‏



عدت إلي الميدان وتوجهت إلي مسجد النور باحثاً عن مياه ألطف بها تاثير الغاز. عند خروجي من المسجد إستوقفتني مشاجرة بين أحد شباب الثورة وبين شاب أخر مصري ملتحي يرتدي الغُطرة السعودية وجلباباً ناصع البياض تشير نظافته أنه ليس من المشاركين في الموقعة. عرفت عند السؤال أن الشاب الملتحي أراد أن يمنع أحد النسوة من الإحتماء بالمسجد بحجة أنها غير محجبة فتدخل الشباب صارخين فيه "ولو عريانة ، أو مش مسلمة أصلاً ، حتدخل بيت ربنا ، إحنا بنموت برة ، إحنا بنمووووت ، روح ، روح إحلق دقنك دي مالهاش أي لازمة".

عدت إلي الشارع ولحقت برفيقي "ن" و"ش". بدأت الأمور في الهدوء بعض الشيء ، وكان من الواضح أن هجمات البلطجية والأمن فشلت في فض التظاهر ، بل أنها فشلت في إخماد جذوة الغضب فينا. في لحظات الهدوء كان إمام مسجد النور يتحدث في ميكروفون المسجد مناشداً الناس ضبط النفس قائلاً "حسبنا الله ونعم الوكيل في من جعل شعب مصر يضرب بعضه البعض" ولكن صوته كان يخبو أكثر مما يُسمع فلم أفهم الكثير مما قاله ، وإعترض البعض علي كلامه السابق قائلين "مش الشعب إلي بيضرب بعضه ، كفاية بقي ، يا متاجرين بالدين". وعلمت من "ن" أنها سمعته في ما لحق يقول "اللهم ثبت اقدام الثوار واحمى الثوار" و "على الجيش ان يحمى المتظاهرين السلميين". ثم أعلن عند فتح المسجد: "المسجد مفتوح للكل وعلى الجيش ان يخرج بره المسجد".
مشينا وسط الثوار. في لحظة ما توقف رفيقَي للحديث مع البعض. نظرت حولي فوجدت شاباً في مقتبل العمر ينظر إلي. لست أدري لماذا إختارني أنا تحديداً ليخبرني بقصته. حدثني عن 25 و 28 يناير ، ثم أراني أثار جرح غائر في ذراعه اليمني وحدثني عن عملية في بطنه. نظرت في عينيه وشعرت بأعين كل أبطال وشهداء يناير تنظر إلي متفحصة ، ولم أدري بنفسي إلا وأنا أعانقه ، إحتضني بحب وحنان وربت علي ظهري كما لو كنت أخاً عاد إليه بعد طول غياب.

هدأت الأمور بعض الشيء وبقي الوضع علي ماهو عليه. وفي خلال الساعة الأخيرة من المعركة لاحظت بعض الناس يدورون وسط الثوار يحدثوننا بضرورة العودة إلي ميدان التحرير ، "يودودون" كما التعبير الدارج. أكاد أجزم أن هؤلاء لم يكن لهم وجود من قبل وأن مهتمهم كانت تفريقنا بعد فشل العنف في ذلك. وخلال هذه الفترة لاحظت بداية تراجع الكوردون الأمني الذي كان يسد طريق العودة. وبدأ شيئاً من الخلاف بين الثوار: نعود إلي التحرير أم نقيم "تحريراً" أخر هنا؟ كان لكل منهم حججه ومنطقه. بعد قليل ظهر بعض الناس من الشوارع الجانبية مدعين أنهم من أهالي المنطقة ويطلبون مننا الرحيل. إستشعر الثوار صيغة التهديد والوعيد في كلامهم ، الذي كان ظاهره الأدب ، فوجد الكثير أنه من الأفضل التراجع فقد وصلت الرسالة وسقط من سقط ومات من مات. حتي رفيقي "ش" الذي كان من الداعين إلي البقاء أخبرني أن البعض ممن ظهروا يعرفهم ويعرف علاقاتهم بفلول النظام وأن هذه التهديدات ربما يكون وراءها ما هو أبشع مما حدث بالفعل.

وفعلاً ، بصورة منظمة وهادئة دخلنا من الجامع لنخرج من بابه الخلفي إلي شارع أخر. لاحظت علي يميننا كردوناً أمنياً أخر يسد الطريق ، ولكن علي اليسار كان طريق العودة مفتوح. تجمعنا فيه وبدأت مسيرة العودة التي كانت مثل مسيرة الذهاب. الأعلام والهتافات. ولكن الأعداد كانت أقل بكثير. مشيت مع رفيقي معهم إلي نقطة مترو غمرة ثم قررنا ركوب المترو إلي التحرير.

عادت المسيرة إلي المنطقة المحررة ، جمهورية ميدان التحرير المستقلة ، المكان الوحيد في مصر الذي شممت فيه نسائم الحرية والعدل والمساواة عن حق. إعتلي بعض الثوار المنصات ليرووا لمن بقوا في التحرير ما حدث في موقعة العباسية. وجلس البعض الأخر يضمد جراحه المادية والمعنوية. شربت معهم بعضاً من الماء ثم خرجت من نقطة تفتيش قصر النيل وفي رأسي مقطع من أغنية لشادية يقول "ماشافش الرجال السمر الشداد فوق كل المحن ، ولاشاف العناد في عيون الولاد وتحدي الزمن ، ولاشاف إصرار في عيون البشر بيقول أحرار ولازم ننتصر ، أصله معداش على مصر".

عدت إلي منزلي ، عدت شخصاً أخر ، وأظن أنني لم أبدأ بعد في فهم حجم التغيير الذي حدث بي جراء أحداث هذا اليوم الذي لن أنساه ما حييت.

تحيا مصر!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق