من أغرب وأعجب النظريات الفيزيائية النظرية المعروفة بإسم "ميكانيكا الكم" (quantum mechanics) أو "الفيزياء الكمومية" (quantum physics) ، وهي العلم الفيزيائي الذي يُعَلِمنا ماذا يحدث علي مستوي الذرة والمستويات الأصغر من الذرة ، هو علم لا ينطبق إلا علي هذه الأحجام الصغيرة ولا نكاد نري له أي تأثير في الأحجام الكبيرة التي نعيش أنا وأنت فيها.
دارس هذا العلم قد يشعر أنه علم يجافي "المنطق" أو "البداهة" أوما يمكن تسميته ب"الإدراك الجمعي" ال"كومون سنس" (common sense). وفي بدايات دراسة الفيزياء الكمية أو ميكانيكا الكم يمر العديد من الطلبة في مرحلة إستنكارية (denial) رافضين أن يصدقوا أن نتائج الكمومية موجودة في الواقع. وقد يستمر الموضوع ويتفاقم ويصل بالطالب إلي رفض الكمومية بالكامل في داخله. أذكر مثلاً حين دراستي للفيزياء في كلية العلوم أن أحد الطلبة الزملاء قال لي أن ميكانيكا الكم علم صعب وغير مفهوم والأساتذة نفسهم مش فاهمينه (مش صح طبعاً الأخيرة دي) ولذلك مابيشرحهوش صح وإحنا بالتالي مش حنفهمه بس حنكتب الكلمتين إلي حافظينهم في الإمتحان وننجح وخلاص وعمرنا ما نرجع للكم ده تاني وكان الله بالسر عليم!
كل ده علشان شعورنا إنه علم يتناقض مع ما نُعَرِفُهُ نحن كبشر علي أنه المنطق. بس الحقيقة مش كدة. الحقيقة إن ما نسميه نحن بالكومون سنس ونظنه قانوناً مطلقاً هو في الواقع محصلة تجربتنا الحياتية اليومية التي نفترض (خطأً) أنها تعبر عن الكون من حولنا بالكامل بكل ما فيه من تفاصيل. هي مش كدة. الصحيح هو أن تجربتنا اليومية ليست إلا تجربة تقريبية جداً لطبيعة الكون. يعني مثلاً إذا ذكرنا نظرية النسبية (أنظر هنا وهنا) ، فنحن نعلم أن هناك ظواهر معينة تظهر للرائي إذا تحرك بسرعة عالية جداً مثلاً ربع أو نصف سرعة الضوء ، مثلاً سيري الرائي الأطوال تتقلص ، وسيري الساعات تبطيء في دورانها وهكذا ، ويظن هذا المسافر إنها ظواهر عجيبة تخالف المنطق ، ولكن هذا ليس صحيحاً ، الصحيح أن هذا هو الطبيعي ، الكون شغال كدة ، هو بس ماشافهاش قبل كدة لأن حياته كلها قضاها في سرعات بطيئة جداً.
إذاً القضية ليست في "المنطق" ، القضية أننا نقضي حياتنا كلها في نطاق ضيق جداً جداً من الظواهر الكونية. سرعاتنا بطيئة فلا نري مؤثرات النسبية الخاصة ، نعيش علي كوكب صغير يدور حول نجم صغير فلا نري مؤثرات الجاذبية القوية التي تظهر في النسبية العامة ، و أحجامنا أكبر بكتير جداً من حجم الذرات والجسيمات المكونة لها فلا نري تأثيرات ميكانيكا الكم.
طيب إيه بقي حكاية ميكانيكا الكم؟
الحكاية بإختصار شديد هي إننا إتعودنا في الميكانيكا العادية بتاعة عمنا نيوتن ، وهي نفس الميكانيكا القائمة علي حياتنا اليومية ومرتبطة إرتباط وثيق بالكومون سنس ، إن هناك مفاهيم أساسية تشكل البنود الأولي لفهمنا للكون. يعني مثلاً طبيعي جداً أن نسأل عن موقع شيء ما. أجي أقولك إنت ساكن فين وتديني العنوان ، يعني تديني موقعك. ولا يخالجني شك إنني إذا ذهبت إلي هذا العنوان سأجدك (إلا إذا كنت كداب بس دي قصة تانية). وطبيعي جداً أن نسأل عن سرعة شيء ما ، يعني ممكن أكلمك في المحمول وإنت سايق وأسألك سرعتك كام وتقولي ، ولا يخالجني شك أيضاً أن سرعتك صحيحة ولو الرادار قفشك علي الطريق الصحراوي حيسجل عليك نفس السرعة إلي إنت قلتهالي في التليفون.
المكان ، الزمان ، السرعة ، الطاقة و و و و ... كلها مفاهيم متعودين عليها ، ولما ندرس فيزياء عادية بيزداد عندنا اليقين إن هذه المفاهيم مطلقة ودقيقة ولا جدال فيها.
إلي أن نصطدم بميكانيكا الكم.
نكتشف فجأة إننا لا نقدر نعرف مكان ولا زمان ولا سرعة ولا أي حاجة خالص بدقة مطلقة لا يختلف عليها إثنان. السؤال نفسه غلط! يعني لا معني إطلاقاً أن نسأل هو الإلكترون فين وسرعته كام ، مع إن هذه أسئلة طبيعية جداً في حياتنا اليومية. لكن تحت مستوي الذرة هذه الأسئلة لا إجابة مطلقة لها. حتلاقي الرد حاجة زي كدة
"الإلكترون في الغالب بنسبة تلاتين في المية موجود هنا ، وبنسبة أربعين في المية يمكن يبقي هنا ، وسرعته مش أكيد يعني بس إحتمال تكون كذا"
طيب يا عم إيه الإحتمالات دي ، مانتاش متأكد ليه؟ ماتزود دقة التجربة شوية وتشتري أجهزة أنضف من إلي بتستعملها علشان نعرف بالظبط فين الإلكترون.
أهي دي المفاجأة بقي. المسألة مش مسألة دقة ومش مسألة أجهزة ، المسألة مسألة أن هذه الأسئلة نفسها "أين الإلكترون" ، " ماهي سرعة الإلكترون" وخلافه أصلاً أسئلة لا معني لها تحت مستوي الذرة!!!
طان طان طاااااااان (موسيقي درامية)
يعني إيه يا عم أسئلة لا معني لها؟ ماحنا عارفينها وبنسألها كل يوم.
أه في حياتك العادية بتسألها كل يوم وبتلاقي إجابات دقيقة ، لكن في الواقع بقي إنها برضه تظل إحتمالات في الحياة العادية ، لكن الإحتمالات تزداد دقة كلما زاد حجم الشيء إلي بتسأل عنه.
يعني إيه؟
يعني الإلكترون علشان صغنن قوي أقصي ما يمكن أعمله إنني أقولك إنه موجود هنا بنسبة تلاتين أو أربعين في المية.
لكن الأشياء إلي إحنا متعودين عليها ، زي بيتكوا مثلاً ، أقدر أقولك إنه موجود في المكان الفلاني بنسبة
99.999999999999999999999999999%
لاحظ إنها مش مية في المية ، لكن قريبة. كل ما يزيد حجم الشيء كل ما إحتمالات الدقة في الأسئلة تزيد. علشان كدة لا أنا ولا إنت متعودين علي ميكانيكا الكم وإحتمالاتها ، ماشفناهاش قبل كدة ، مانعرفهاش ، مالناش تجربة بيها. وعلشان كدة ممكن نرفضها وممكن تضايقنا جداً لأنها جايالنا علي الجرح زي مابيقولوا ، بتبينلنا إن الأسئلة العادية بتاعة كل يوم زي "إنت فين" ، "الساعة كام" "جاي إمتي" إجاباتها ليست مطلقة ولا محددة تحديداً لامتناهي (إلا إذا كنت مصري ، في الحالة دي سؤال "جاي إمتي" ده لا يعني أي دقة بالنسبالك عادي). وبيتضح لنا إننا بنينا حياتنا كلها علي إحتمالات ولو حتي إحتمالات كبيرة!!
طيب هي ميكانيكا الكم دي مافيهاش حاجة مطلقة؟ كله إحتمالات كدة؟
لأ فيها ، بس المطلق إلي فيها حاجات تانية جديدة إنت عمرك ما سمعت عنها. يعني مثلاً فيه حاجة مهمة جداً في ميكانيكا الكم بتصف حالة الأشياء إسمها "دالة الموجة" أو
Wave function
دالة الموجة دي بتصف الإلكترونات والپروتونات وخلافه ، وممكن برضه تشتغل معاك لو إنت عايز تصف حاجات أكبر من كدة زي الذرات والجزيئات وحتي أنا وإنت. ودالة الموجة دي مالهاش إحتمالات. يعني لو سألتك ماهي دالة الموجة بتاعة كذا الإجابة ستكون إجابة دقيقة مش بإحتمالات. طيب ما بنستعملهاش في حياتنا اليومية ليه؟ لأن مالهاش لازمة في حياتنا اليومية ، الحاجات التانية أسهل ، لكن علي مستوي الذرة هي دالة الموجة دي كل حاجة ، الكل في الكل ، ولما بنسأل علي الحاجات التانية دي نلاقي إحتمالات.
هي دي ميكانيكا الكم بمنتهي الإختصار وكل سنة وإنتوا طيبين (بإحتمال 96.123%)